لقد رأيت ظاهرة يا أبي كثيراً ما أقلقتني وأزعجتني، ألا وهي أن بعض الشباب يسئ لوالديه في المعاملة، بحجة أنهما لا يحققان بعض مطالبه، أو أنهما لا يزالان يعاملانه على أنه طفل، إني أدرك يا أبي أن هذا السلوك ليس له ما يبرره بحال، فحبذا لو ألقيت الضوء على هذه القضية.
بارك الله فيك يا بني، إن مما يؤسف له أن ترى الشاب المسلم، وربما الصالح يرفع صوته على والديه أحياناً ويسيء لهما، ناسياً الحق العظيم لهما فقد قرن الله تبارك وتعالى حقه بحقهما في أكثر من آية في كتاب الله فقال ((وَقَضَىَ رَبّكَ أَلاّ تَعْبُدُوَاْ إِلاّ إِيّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمّا يَبْلُغَنّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لّهُمَا أُفّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لّهُمَا قَوْلاً كَرِيماً)) (الإسراء: 23).
وأمر الله تبارك وتعالى المؤمن بأن يخفض جناح الذل لهما فقال ((وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذّلّ مِنَ الرّحْمَةِ)) (الإسراء:24).
بل يا بني إن الجهاد في سبيل الله تبارك وتعالى، ذروة سنام الإسلام، ومن أعظم الأعمال التي يتقرب بها العبد لربه عز وجل، حين يكون نافلة فإنه مشروط برضا الوالدين، لقد جاء رجل للنبي صلى الله عليه وسلم يسأله أن يجاهد معه، فسأله : "أَحَيٌّ وَالِدَاكَ؟" قال: نعم، قال: "فَفِيهِمَا فَجَاهِدْ".
وجاءه صلى الله عليه وسلم رجل فقال: جئت أبايعك على الهجرة وتركت أبوي يبكيان، فقال له صلى الله عليه وسلم: "فارْجِعْ عَلَيْهِمَا فَأَضْحِكْهُمَا كَمَا أَبْكَيْتَهُمَا".
إذاً فما دام البر بهذه المنـزلة يا أبي فلابد أن يكون الشرع قد رتب عليه ثواباً عظيماً؟
نعم يا بني، لقد رتب الشرع على ذلك عظيم الثواب، فأول ذلك أن طاعة الوالدين طاعة لله تبارك وتعالى، فحين يلبي المرء أمر والديه مهما صغر أو كبر، فهو يطيع ربه عز وجل.
والأمر الثاني يا بني: أن رضاهما سبب لرضا الرب تبارك وتعالى، فإذا أرضى العبد أبويه أرضى ربه عز وجل، وإذا أسخطهما أسخط ربه قال صلى الله عليه وسلم :"رِضَى الرَّبِّ فِي رِضَى الْوَالِدِ وَسَخَطُ الرَّبِّ فِي سَخَطِ الْوَالِدِ".
والأمر الثالث يابني: أن برهما سبب لتحصيل الجنة، فقد قال صلى الله عليه وسلم: "رَغِمَ أَنْفُهُ، ثُمَّ رَغِمَ أَنْفُهُ، ثُمَّ رَغِمَ أَنْفُهُ" قيل: من يا رسول الله؟ قال: "مَنْ أَدْرَكَ وَالِدَيْهِ عِنْدَ الْكِبَرِ أَحَدَهُمَا أَوْ كِلَيْهِمَا ثُمَّ لَمْ يَدْخُلِ الْجَنَّةَ".
والأمر الرابع: أن الله تبارك وتعالى يجيب دعاء من بر والديه، فقد حدَّث النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه عن رجل يقال له أويس القرني، كانت له أم وكان براً بها، وأنه لو أقسم على الله لأبره، وأمرهم أن يسألوه أن يدعو لهم.
ولعلك تعرف قصة الثلاثة الذي آواهم المبيت إلى غار، فانطبقت عليهم الصخرة، فقال بعضهم لبعض: إنه لن ينجيكم مما أنتم فيه إلا أن تدعو الله بصالح أعمالكم، فكان أولهم رجلاً براً بوالديه، فدعوا الله عز وجل فأزال عنهم الصخرة وخرجوا يمشون.
إذا كان هذا شأن البر يا أبي فما مصير أهل العقوق؟
إن العقوق يا بني شؤمه عظيم، ووباله كبير، كيف لا وقد جعله النبي صلى الله عليه وسلم قرين الشرك بالله عز وجل، فعن أنس ابن مالك -رضي الله عنه- قال: سُئِلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنِ الْكَبَائِرِ فقَالَ:«الإِشْرَاكُ بِاللَّهِ، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْن،ِ وَقَتْلُ النَّفْسِ، وَشَهَادَةُ الزُّورِ».
والعقوق يا بني تعجل عقوبة صاحبه في الدنيا، فعن أبي بكرة -رضي الله عنه- قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «اثنان يجعلهما الله في الدنيا: البغي وعقوق الوالدين».
ونتيجة ثالثة للعقوق يا بني، ما أشدها على صاحبها، ذلك أنه حين يعق الابن أباه، فقد يدعو ذلك الأب إلى أن يدعو عليه، ودعوة الوالد على ولده مجابة، فقد قال صلى الله عليه وسلم:«ثلاث دعوات مستجابات لاشك فيهن: دعوة الوالد على ولده، ودعوة المسافر، ودعوة المظلوم»، حينئذٍ يجتمع على هذا الابن عمل ضعيف زهيد، وعقوق تعجل له فيه قارعة أو عقوبة، ويأتي بعد ذلك الدعاء الذي لا يرد.
وما أسوأ أبواب العقوق يا أبي؟
أسوأ أبواب العقوق يا بني عقوق المنهج والفكر، فحين يكون الأب صالحاً ويدعو ابنه للطاعة والخير فيخالفه ويسير على خلاف الطريق الذي ارتضاه الله له ودعاه إليه والده، حين يكون الأب سباقاً للخير مبادراً للصلاة والابن خلاف ذلك.
ولكن بعض الشباب يا أبي يعتذر بأن والده قد قصر في حقه مما أدى به إلى أن يرفع عليه صوته ويغلظ له.
يا بني، هل هناك خطأ وسوء أعظم من الشرك بالله عز وجل؟ ومع ذلك جاء في كتاب الله عز وجل الأمر ببر الوالدين والإحسان إليهما ولو وقعا في الشرك بالله عز وجل، ألا تعرف الآية التي تدل على ذلك؟
بلى يا أبت، إنها قوله تعالى ((وَإِن جَاهَدَاكَ عَلَىَ أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدّنْيَا مَعْرُوفاً)) (لقمان: 15).
أحسنت يابني، ولذا عقب الله هذه الآية بقوله ((وَاتّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيّ)) أي فلا تطعهما وأطع من يدعوك لطاعة الله، ومع ذلك فأحسن إليهما.
إذاً يا أبي أفهم من ذلك أن الشباب الذين ابتلوا بآباء مقصرين في الطاعة، واقعين في المعصية لا يعفون من الواجب الشرعي بالبر بوالديهم؟
نعم يا بني، فقد أمر الله بالإحسان للأبوين حين يجاهدان الابن على الشرك ويدعوانه إليه، فكيف إذا كانا مسلمين؟ فعليه أن يبرهما، وأن يحسن لهما ويطيعهما، ويدعوهما بالرفق والأسلوب الحسن المناسب.
ومن باب أولى حين يقع من أحد والديه خطأ تجاهه فعليه أن يحتمل ويصبر.
ويجب أن يعلم الشاب أن حق والديه تجاهه يجب ابتداءً، وليس مقابل إحسانهما له، بل أكثر الأخطاء التي يقع فيها الآباء تجاه أبنائهم منطلقها حرصهم عليهم وإرادة الخير لهم.
محاضرة الشيخ ابراهيم الدويش